كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الطبراني وابن مردويه بسنده عن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه ثلاثًا، فمن أصابته القرعة خرج بها معه، فلما غزا بني المصطلق، أقرع بينهن، فأصابت عائشة، وأم سلمة، فخرج بهما معه، فلما كانوا في بعض الطريق، مال رحل أم سلمة، فأناخوا بعيرها ليصلحوا رحلها، وكانت عائشة تريد قضاء حاجة، فلما أبركوا إبلهم قالت عائشة: فقلت في نفسي إلى ما يصلح رحل أم سلمة أقضي حاجتي. قالت فنزلت من الهودج ولم يعلموا بنزولي. فأتيت خربة، فانقطعت قلادتي، فاحتبست في جمعها ونظامها، وبعث القوم إبلهم ومضوا وظنوا أني في الهودج، فخرجت ولم أر أحدًا، فاتبعتهم حتى أعييت. فقلت في نفسي: إن القوم سيفقدوني ويرجعون في طلبي، فقمت على بعض الطريق، فمر بي صفوان بن المعطل وكان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة فجعله.
وكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم، فما سقط منهم من شيء حمله حتى يأتي به أصحابه قالت عائشة: فلما مر بي ظن أني رجل فقال: يا نومان قم فإن الناس قد مضوا فقلت: إني لست رجلًا، أنا عائشة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أناخ بعيره، فعقل يديه، ثم ولى عني، فقال يا أمه: قومي فاركبي، فإذا ركبت فآذنيني قالت: فركبتُ، فجاء حتى خلَّ العقال ثم بعث جمله فأخذ بخطام الجمل قال عمر: فما كلمها كلامًا حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عبدالله بن أبي ابن سلول للناس: فجربها ورب الكعبة. وأعانه على ذلك حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة، وشاع ذلك في العسكر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في قلب النبي صلى الله عليه وسلم مما قالوا حتى رجعوا إلى المدينة، وأشاع عبدالله بن أبي هذا الحديث في المدينة، واشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: فدخلت ذات يوم أم مسطح، فرأتني وأنا أريد المذهب، فحملت معي السطل وفيه ماء، فوقع السطل منها فقالت: تعس مسطح قالت لها عائشة- سبحان الله- تسبين رجلًا من أهل بدر وهو ابنك؟ قالت لها أم مسطح: أنه سال بك السيل وأنت لا تدرين وأخبرتها بالخبر. قالت: فلما أخبرتني أخذتني الحمى بنافض مما كان، ولم أجد المذهب.
قالت عائشة: وقد كنت أرى من النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك جفوة، ولم أدر من أي شيء هو، فلما حدثتني أم مسطح علمت أن جفوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذاك، فلما دخل عليَّ قلت: تأذن لي أن أذهب إلى أهلي؟ قال: اذهبي، فخرجت عائشة حتى أتت أباها فقال لها: ما لك؟ قلت: اخرجني رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته قال لها أبو بكر: فأخرجك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته وآويك أنا، والله لا آويك حتى يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤويها فقال لها أبو بكر: والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية قط فكيف وقد أعزنا الله بالإِسلام؟ فبكت عائشة، وأمها أم رومان، وأبو بكر، وعبد الرحمن، وبكى معهم أهل الدار.
وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «أيها الناس من يعذرني ممن يؤذيني»؟ فقام إليه سعد بن معاذ، فسل سيفه وقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه؟ إن يكن من الأوس أتيتك برأسه، وإن يكن من الخزرج أمرتنا بأمرك فيه، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت والله ما تقدر على قتله، إنما طبتنا بذحول كانت بيننا وبينكم في الجاهلية فقال هذا: يال الأوس وقال هذا: يال الخزرج.
فاضطربوا بالنعال والحجارة فتلاطموا، فقام أسيد بن حضير فقال: فيم الكلام؟ هذا رسول الله يأمرنا بأمره فنفعله عن رغم أنف من رغم.
ونزل جبريل وهو على المنبر، فلما سري عنه، تلا عليهم ما نزل به جبريل {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] إلى آخر الآيات فصاح الناس: رضينا بما أنزل الله وقام بعضهم إلى بعض، وتلازموا، وتصايحوا، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر.
وأبطأ الوحي في عائشة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وبريرة، وكان إذا أراد أن يستشير في أمر أهله لم يعد عليًا، وأسامة بن زيد، بعد موت أبيه زيد فقال لعلي: «ما تقول في عائشة فقد أهمني ما قال الناس»؟ قال: يا رسول الله قد قال الناس، وقد حل لك طلاقها، وقال لأسامة: «ما تقول أنت»؟ قال- سبحان الله- ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم. فقال لبريرة: «ما تقولين يا بريرة»؟ قالت والله يا رسول الله ما علمت على أهلك إلا خيرًا، إلا أنها امرأة نؤم تنام حتى تجيء الداجن، فتأكل عجينها وإن كان شيء من هذا ليخبرنك الله.
فخرج صلى الله عليه وسلم حتى أتى منزل أبي بكر، فدخل عليها فقال: «يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر الله لك» فقالت: والله لا أستغفر الله منه أبدًا. إن كنت قد فعلته فلا غفر الله لي، وما أجد مثلي ومثلكم إلا مثل أبي يوسف، اذهب اسم يعقوب من الأسف قال {إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف: 86].
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمها إذ نزل جبريل بالوحي، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم نعسة، فسري وهو يبتسم فقال: «يا عائشة إن الله قد أنزل عذرك» فقالت: بحمد الله لا بحمدك. فتلا عليها سورة النور إلى الموضع الذي انتهى إلى عذرها وبراءتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قومي إلى البيت فقامت».
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فدعا أبا عبيدة بن الجراح، فجمع الناس، ثم تلا عليهم ما أنزل الله من البراءة لعائشة، وبعث إلى عبدالله بن أبي، فجيء به، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم حدين، وبعث إلى حسان، ومسطح، وحمنة، فضربوا ضربًا وجيعًا ووجيء في رقابهم قال ابن عمر: إنما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي حدين لأنه من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعليه حدان.
فبعث أبو بكر إلى مسطح لا وصلتك بدرهم أبدًا، ولا عطفت عليك بخير أبدًا، ثم طرده أبو بكر وأخرجه من منزله. ونزل القرآن {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} إلى آخر الآية. فقال أبو بكر: أما إذ نزل القرآن يأمرني فيك لأضاعفن لك.
وكانت امرأة عبدالله بن أبيّ منافقَةً معه، فنزل القرآن {الخبيثات} يعني امرأة عبدالله {للخبيثين} يعني عبدالله {والخبيثون للخبيثات} عبدالله وامرأته {والطيبات} يعني عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم {للطيبين} يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي اليسر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: يا عائشة قد أنزل الله عذرك قالت: بحمد الله لا بحمدك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند عائشة، فبعث إلى عبدالله بن أبي، فضربه حدين، وبعث إلى مسطح، وحمنة، فضربهم.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس {إن الذين جاءُوا بالإِفك عصبة منكم} يريد أن الذين جاءوا بالكذب على عائشة أم المؤمنين أربعة منكم {لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم} يريد خيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبراءة لسيدة نساء المؤمنين، وخير لأبي بكر، وأم عائشة، وصفوان بن المعطل {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإِثم والذي تولى كبره منهم} يريد إشاعته منهم يريد عبدالله بن أبي بن سلول {له عذاب عظيم} يريد في الدنيا جلده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة مصيره إلى النار {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار فيها بريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خير وقالوا: هذا كذب عظيم {لولا جاءُوا عليه بأربعة شهداء} لكانوا هم والذين شهدوا كاذبين {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} يريد الكذب بعينه {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} يريد ولولا ما من الله به عليكم وستركم {هذا بهتان عظيم} يريد البهتان الافتراء مثل قوله في مريم بهتانًا عظيمًا {يعظكم الله أن تعودوا لمثله} يريد مسطحًا، وحمنة، وحسان {ويبين الله لكم الآيات} التي أنزلها في عائشة والبراءة لها {والله عليم} بما في قلوبكم من الندامة فيما خضتم به {حكيم} في القذف ثمانين جلدة {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} يريد بعد هذا {في الذين آمنوا} يريد المحصنين والمحصنات من المصدقين {لهم عذاب أليم} وجيع في الدنيا يريد الحد، وفي الآخرة العذاب في النار {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ما دخلتم فيه وما فيه من شدة العذاب وأنتم لا تعلمون شدة سخط الله على من فعل هذا.
{ولولا فضل الله عليكم} يريد لولا ما تفضل الله به عليكم {ورحمته} يريد مسطحًا، وحمنة، وحسان {وإن الله رؤوف رحيم} يريد من الرحمة رؤوف بكم حيث ندمتم ورجعتم إلى الحق {يا أيها الذين آمنوا} يريد صدقوا بتوحيد الله {لا تتبعوا خطوات الشيطان} يريد الزلات {فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} يريد بالفحشاء عصيان الله، والمنكر كل ما يكره الله تعالى {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} يريد ما تفضل الله به عليكم ورحمكم {ما زكى منكم من أحد أبدًا} يريد ما قبل توبة أحد منكم أبدًا {ولكن الله يزكي من يشاء} فقد شئت أن يتوب عليكم {والله سميع عليم} يريد سميع لقولكم عليم بما في أنفسكم من الندامة.
{ولا يأتل} يريد ولا يحلف {أولوا الفضل منكم والسعة} يريد ولا يحلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح {أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} فقد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل، وجعلت عندك السعة والمعرفة بالله، فسخطت يا أبا بكر على مسطح فله قرابة، وله هجرة، ومسكنة، ومشاهد رضيتها منه يوم بدر {ألا تحبون} يا أبا بكر {أن يغفر الله لكم} يريد فاغفر لمسطح {والله غفور رحيم} يريد فإني غفور لمن أخطأ، رحيم بأوليائي.
{إن الذين يرمون المحصنات} يريد العفائف {الغافلات المؤمنات} يريد المصدقات بتوحيد الله وبرسله وقد قال حسان بن ثابت في عائشة:
حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت عائشة: لكنك لست كذلك {لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} يقول أخرجهم من الإِيمان مثل قوله في سورة الأحزاب للمنافقين {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتِّلوا تقتيلًا} [الأحزاب: 61].
{والذي تولى كبره} يريد كبر القذف وإشاعته عبدالله بن أبي الملعون {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} يريد أن الله ختم على ألسنتهم فشهدت الجوارح، وتكلمت على أهلها بذلك، وذلك أنهم قالوا تعالوا نحلف بالله ما كنا مشركين، فختم الله على ألسنتهم، فتكلمت الجوارح بما عملوا، ثم شهدت ألسنتهم عليهم بعد ذلك. {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} يريد يجازيهم بأعمالهم بالحق، كما يجازي أولياءه بالثواب، كذلك يجازي أعداءه بالعقاب، كقوله في الحمد {مالك يوم الدين} يريد يوم الجزاء {ويعلمون} يريد يوم القيامة {أن الله هو الحق المبين} وذلك أن عبدالله بن أبي كان يشك في الدنيا، وكان رأس المنافقين فذلك قوله: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} ويعلم ابن سلول {إن الله هو الحق المبين} يريد انقطع الشك واستيقن حيث لا ينفعه اليقين.
{الخبيثات للخبيثين} يريد أمثال عبدالله بن أبي، ومن شك في الله ويقذف مثل سيدة نساء العالمين {والطيبات للطيبين} عائشة طيبها الله لرسوله. أتى بها جبريل في سرقة من حرير قبل أن تصور في رحم أمها فقال له: عائشة بنت أبي بكر زوجتك في الدنيا، وزوجتك في الجنة عوضًا من خديجة، وذلك عند موتها بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقر بها عيناه.
{والطيبون للطيبات} يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبه الله لنفسه، وجعله سيد ولد آدم {والطيبات} يريد عائشة {أولئك مبرأون مما يقولون} يريد برأها الله من كذب عبدالله بن أبي {لهم مغفرة} يريد عصمة في الدنيا {ومغفرة} في الآخرة {ورزق كريم} يريد الجنة وثواب عظيم.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير {إن الذين جاءوا بالإِفك} الكذب {عصبة منكم} يعني عبدالله بن أبي المنافق، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، {لا تحسبوه شرًا لكم} يقول لعائشة وصفوان: لا تحسبوا الذي قيل لكم من الكذب {شرًا لكم بل هو خير لكم} لأنكم تؤجرون على ذلك {لكل امرئ منهم} يعني ممن خاض في أمر عائشة {ما اكتسب من الإِثم} على قدر ما خاض فيه من أمرها {والذي تولى كبره} يعني خطه منهم يعني القذفة وهو ابن أبي رأس المنافقين، وهو الذي قال: ما برئت منه، وما برىء منها {له عذاب عظيم} وفي هذه الآية عبرة عظيمة لجميع المسلمين إذا كانت فيهم خطيئة فمن أعان عليها بفعل، أو كلام، أو عرض لها، أو أعجبه ذلك، أو رضي، فهو في تلك الخطيئة على قدر ما كان منه، وإذا كان خطيئة بين المسلمين فمن شهد وكره فهو مثل الغائب، ومن غاب ورضي فهو مثل شاهد.